ضمن سلسلة اللقاءات التواصلية التي ينظمها المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور، مع ثلة من الأئمة والخطباء لتقاسم التجارب ونقل الخبرات من الجيل الحاضر إلى غيره من الأجيال الأخرى، وعرفانا بالدور الكبير الذي اضطلعوا به في خدمة الشأن الديني بالإقليم، يأتي هذا اللقاء الخامس مع الإمام والخطيب والواعظ فضيلة السيد: محمد بن محمد بن أحمد بن محمد السعيدي الأحمدي التلواني الشفشاوني الهدار ، وهو من مواليد عام 1948م غير أنه مقيد في سجلات الحالة المدنية لعام 1951م.
كان مولده في قرية تلوان قبيلة بني أحمد إقليم شفشاون كان والده فلاحا وحافظا لما تيسر من كتاب الله تعالى، وهو الذي رغبه وحفزه على التفرغ لحفظ القرآن الكريم، حيث التحق بمسجد المدشر وعمره خمس سنوات، ويذكر أنه مع بداية استقلال المغرب ظهرت مدارس التعليم العام في المدشر على غرار باقي مناطق المملكة، وكان عدد التلاميذ الذين يحفظون القرآن يزيد عن 40 تلميذا، أغلبهم التحق بالتعليم العام، غير أن والده رفض التحاقه بهذا التعليم الجديد لأنه أراد أن يحقق رجاءه في أن يكون من حفظة كتاب الله تعالى. وكان القسم مجاورا للمسجد مما جعله يحزن ويبكي لكون رفاقه التحقوا بالتعليم العصري وهو لايزال في المسجد، غير أن ما كان يخفف عنه بعض ما يجد هو أن ذلك المعلم كان رجلا ذكيا وفاضلا، إذ أنه أثناء الاستراحة كان يطلب من الفقيه أن يأذن لطلابه أن يشاركوا زملاءهم القدامى في هذه الاستراحة، وكان ذلك مما يدخل بعض السعادة على قلوبهم. ويذكر أنه لم يبق بالمسجد غيره وابن عمه فقط متفرغين لحفظ القرآن الكريم مما جعل الفقيه أيضا يصاب بنوع من الفتور في تحفيظهم مما اضطر معه هو وابن عمه للمغامرة في البحث عمن يحفظهما القرآن فقصدا إماما من قبيلتهم في قرية مجاورة غير أن والده أرجعه إلى المنزل نظرا لصغر سنه.
وأول إمام تعلم على يديه الكتابة والقراءة هو اسي العياشي ويذكر أنه كتب له في اللوح بالطريقة المعروفة “إحنيشن ” خيرا يره شرا يره – وأعاد كتابتها غير أنه لما أراد قراءة المكتوب لم يستطع وطالبه الفقيه بالقراءة مرارا، ولما لم يستطع لطمه لطمة على وجهه وقال له، خيرا يره شرا يره. إنه يتذكر ذلك جيدا حتى بعد مرور كل هذه الأعوام.
بعد ذلك قرأ على الفقيه أسي عبد النبي بن الحاج علي ثم الفقيه اسي لحسن المرابط وعليه ختم السلكة وكلهم من فقهاء القرية.
ثم جاء فقيه من خارج القرية وهو الحاج اسي علي بن طامو كان من علماء القرويين وكان يدرس العلوم الشرعية ويحفظ القرآن الكريم وكان أثناء تحفيظهم يعلمهم المحادثة باللغة العربية والحساب وغير ذلك من أسس الدين يذكر أن من أساليب التحفيز التي كانت معروفة هو أن أباء التلاميذ كانوا يزيدون في الشرط المقدم للفقيه حتى يعتني بأبنائهم وكان إذا ضرب الفقيه تلميذا بمجرد رجوعه إلى المنزل يزيده والده ضربا فكان هذا هو التحفيز)يضحك( فكانت الصرامة بشكل زائد ومفرط، ثم انقطع عن الحفظ لمساعدة والده في الفلاحة مما جعله ينسى محفوظه من القرآن الكريم .
بعد استطاعته الخروج من المدشر انتقل إلى قبيلة بني زروال مع الفقيه الذي كان يدرسه في القبيلة اسي لحسن المرابط فقرأ عليه 20 حزبا من البداية إلى إنما السبيل، فكان يحفظها حفظا متقنا، ثم لما غفل عنه الفقيه لمدة عشرين يوما فقط، وطالبه باستظهار محفوظه وجده قد نسي الكثير، مما جعل الفقيه يعاقبه على ذلك وقد قضى معه عاما كاملا.
وكان الإيواء في المسجد والطعام تتكلف به الجماعة بما هو معروف ب”المعروف” حيث إن كل شخص من الجماعة كان يقدم وجبة طعام كل يوم لطالب من طلبة المسجد المتفرغين لحفظ القرآن الكريم وتعلم العلوم الشرعية.
بعد ذلك انقطع عن الدراسة سنة 1968 ، بعد أن كان قد حفظ القرآن الكريم حفظا متقنا، وكان في تلك القبيلة إمام من الشرفاء العلويين خطيبا في مسجد من مساجدها، ويحتاج هذا المسجد إلى إمام راتب يصلي الصلوات الخمس ويحفظ القرآن الكريم لأبناء الجماعة، فشجعه على المشارطة في هذا المسجد ليقوم بهذه المهمة، وفعلا تم ذلك واستمر في هذا المسجد لمدة خمسة أشهر، استفاد فيها من صحبة هذا الخطيب الذي كان ملما بما تيسر من العلوم الشرعية، وفي هذه الأثناء تعرف على بعض أفراد عائلة الفقيه الموجودين في الدار البيضاء فذهب معهم للعمل في الخياطة التي كان يجيدها.
في سنة 1969 انتقل إلى مدينة وجدة للعمل في الخياطة والتجارة إلى عام 1971 وأثناء مقامه في هذه المدينة كان محافظا على قراءة الحزب الراتب في مسجد البركاني مسجد السنة، ثم شاء الله له ما هو أفضل، ذلك أنه كان يستريح يوم الجمعة، ويواظب على صلاة المغرب وقراءة الحزب الراتب، ويحضر درس أحدهم كان يلقيه بين العشاءين بنفس المسجد، وذلك انطلاقا من كتاب رياض الصالحين، وحدث يوما أن أعطاه الواعظ الكتاب ليقرأ منه كي يتولى الشيخ الشرح والبيان للناس، غير أنه أحس بالصدمة من هول التكليف، لكونه لا يعرف قواعد النحو مما جعله يعتذر لهذا الشيخ عن القراءة لأن الكتاب غير مشكول، وتفاجأ الشيخ، وغضب عضبا شديدا، وقال سبحان الله، اخترنا أحسن شاب معنا للقراءة لكنه لا يعرف القراءة، فرد عليه صاحبنا معتذرا: أنا حفظت القرآن الكريم، لكني غير متقن لقواعد النحو. فقال له الشيخ بنبرة شديدة اذهب لإتمام دراستك، وكرر هذا التوجيه بنبرة جادة وحادة ،مما جعل صاحبنا تحدثه نفسه بأن يهم بسوء للرد عليه، وهم بالانصراف لكن الشيخ طالبه بالبقاء، ووبخه وحثه على إتمام دراسته، بعد ذلك سلم الكتاب لتلميذ صغير فقرأ من الكتاب قراءة سليمة والشيخ يشرح لمن حوله، بعد الانتهاء من هذه الحصة والموقف المخجل، دعا الله تعالى أن ييسر له السبب للرجوع لإكمال دراسته، كل هذا كان في بداية عام 1971، فشاء الله ان يصاب بمرض جعله يقصد أحد الأطباء الذي وصف له دواء وطالبه بأخذ الدواء في مكان تتوفر فيه الراحة خارج المدينة، فاشترى الدواء من إحدى صيدليات مدينة الناظور في طريق عودته إلى قبيلته، حيث استراح وصام رمضان تلك السنة مع عائلته، وصلى التراويح بالناس في مسجد مدشره.
بعد ذلك قال لوالديه إني راغب في إتمام الدراسة، فأثار ذلك تعجب والدته، غير أن والده قال لها: اتركيه واسألي الله أن ييسر له الأمور. وكان هذا هو سبب العودة إلى مواصلة طلبه للعلم، حيث قصد قبيله يقال لها غزاوة بالشاون. يقول : وكنت أدعو الله تعالى أن يمكنني من شيخ له من العلم والصلاح والإخلاص ما أنتفع به فاستجاب الله دعائي ورزقت بشيخ له من العلم والصلاح الشيء الكثير، فختمت عليه ختمتين للقرآن الكريم واصلا الليل بالنهار في الحفظ، وبعد أن استفدت من معارفه وجهني إلى مدرسة للتعليم العتيق لأكمل دراستي في العلوم الشرعية تسمى تيساس ببوحماد، لكن شاء الله تعالى أن أجد مدرسة أخرى هي مدرسة القب ببني دركون قرب الشرافات، وهي مدرسة قديمة كان يدرس فيها الشيخ سيدي أحمد بن عمر أكدي العمراني الحسني رحمه الله، فكنا ما يقارب 60 طالبا، وكنت أحضر جميع دروسه في الفقه والنحو والتفسير والمنطق والمواريث وغير ذلك، لكوني كبيرا في السن فكنت حريصا كل الحرص على التحصيل، ومكثت معه نحوا من خمس سنين كانت كلها جدا واجتهادا.
ويذكر أنه لما التحق أول الأمر بالمدرسة، أخذ يسرد في كل حصة دون مراعاة للدور، خلاف المعمول به، مما جعل الفقيه ينبهه أن سرد المواد في الحصص الدراسية إنما يكون بالتناوب لتعم الفائدة الجميع.
بعد هذه المرحلة من الدراسة أدرك صاحبنا البون الشاسع بين من يكتفي بحفظ القرآن الكريم وبين من يضيف إلى هذا الحفظ ما تيسر من العلوم المختلفة، ويتذكر أنه في هذه الفترة من سنة 1972 توفيت والدته رحمها الله تعالى.
وحيث بقي والده وحيدا، وإذ استشعر الولد أن أباه يحتاج إلى مساعدة، وبعد استشارة الفقيه الذي كان يدرسه ووالده وبعض الأصدقاء أشاروا عليه بالسفر إلى مدينة الناظور – وهو حينها شاب عازب -، وذلك في شهر يونيو من عام 1976، وبمجرد ختم ألفيه ابن مالك شد الرحال إلى هذه المدينة حتى لا يخرج مع الطلبة في الرحلة المعروفة بعد الختم، وعز عليه فراق رفيقه في الدراسة الشيخ الطاهر التجكاني ولكن هذه هي سنة الله في الحياة.
قصد بلدة أزغنغان ذات خميس للبحث عن مسجد يستقر فيه، وكان نصيبه مسجد ثيغانيمين إريحيين التابع لجماعة بني شيكر، قرب ثزوظا، حيث قضى هناك ثلاثة أشهر كان يؤم الناس في الصلوات الخمس، ويحفظ القرآن الكريم لأبناء المدشر.
وبحلول نهاية سنة 1976 التحق بمسجد إشرقيا بالعمال قرب أزغنغان فاستقر فيه لمدة سنة وثلاثة أشهر وذلك إلى آخر سنة 1977، حيث كان يؤم الناس في الصلوات الخمس ويحفظ القرآن الكريم
و في سنة 1978 التحق بمسجد باصو المعروف بمسجد ابلحرشن، ويذكر أن السبب في التحاقه بهذا المسجد هو أنه كان بالإضافة إلى مهمة الشرط كان يمارس مهنة الخياطة، وكانت له علاقة طيبة برجل خياط من الجماعة، اسمه سي لحبيب يعيش، والذي أثار عليهم به ليخلف الإمام السابق في هذا المسجد، فكان أن عقدوا معه لقاء في يوم الخميس ، فطلبوا منه أن يصلي بهم في الغد صلاة الجمعة، وحيث إن صاحبنا كانت له تجربة في النيابة عن شيخه أثناء الدراسة لم يتردد، وعندما حضر إلى المسجد في الغد طلبوا منه إلقاء درس قبل الخطبة مع خطبة الجمعة ـ فوافق ، وبعد صلاة العصر التحقت الجماعة بالمسجد ليتباحثوا معه في أمر الشرط فأخبرهم أنه غير متزوج، وأنه مشارط في مسجد العمال، فإن رضوا به إماما فذاك، وإلا فإنه مستعد ليصلي بهم الجمعة إلى أن يجدوا إماما يناسبهم، وبدأوا يتحدثون بينهم بالأمازيغية فسمع أحدهم يقول: “وغاس بو ثمغارث” فرد عليه أحدهم قائلا “قاع” ،وبعد أخذ ورد، قال أحدهم للفقيه: إن الجماعة ترحب بك بيننا، وشاء الله أن يستقر في هذا المسجد منذ سنة 1978 إلى يومنا هذا مؤذنا وإماما وخطيبا وواعظا يقوم بمهامه بكل تفان وإتقان.
أما عن علاقته بعلماء المدينة فبدأت منذ أن كان العلامة مقدم بوزيان يصلي معه الجمعة، وكانت الجماعة تطلب من الأخير إلقاء درس في المسجد غير أنه يرفض ويطلب منهم أن يستأذنوا الإمام أولا، وكان هذا من أدب العلماء وأخلاقهم ومروءتهم. ويذكر أنه قال له أنت لا تحتاج إلى إذن، فرد عليه بفطنة العالم وتجربته: ينبغي أن نعلم الناس احترام تخصص الإمام، وأن نسد الباب على المتطفلين فهذا بيت الله له حرمة ومكانة، وكان يوصي الجماعة بالإمام خيرا، فرخم الله شيخنا الجليل.
وفي عام 1982 تأسست المجالس العلمية في المغرب ، وبعد عام طلب منه الأستاذ مقدم بوزيان وهو آنذاك رئيس للمجلس العلمي أن يتولى مهمة الوعظ نظرا لمؤهلاته العلمية، وللقبول الذي يحظى به بين الناس، وبقيت هذه العلاقة مع المؤسسة العلمية إلى يومنا هذا، وخلال هذه المرحلة كلها تعرف على كثير من علماء هذه المدينة والذين استفاد منهم ، من علمهم ومن أخلاقهم، ومن حكمتهم. منهم سي مقدم بوزيان وسي عمر أشركي وسي العدولي والسي عبد الله الصقلي وسي محمد بن عمر وكان هذا الأخير يتقن مختصر الشيخ خليل والنحو، فكانت مجالسته لا تخلو من فوائد علمية.
وبعد مرور مدة على استقراره بالمسجد، شرع في تدريس ألفية ابن مالك بذات المسجد، والسبب في ذلك أن رجلا متقاعدا من بلجيكا -وكان حافظا للقرآن الكريم – طلب منه أن يقرأ معه الأجرومية فلم يتردد وبصحبتهما الفقيه اسي أحمد العلامي إمام مسجد القوس، وكان ذلك عام 1988 ، وقد سلك في ذلك طريقة مبسطة وانتشر الخبر فبدأ أئمة الإقليم يتوافدون عليه، وخصص لهم وقتا بعد صلاة الفجر ، وكان عددهم يقارب العشرين، من الأئمة، واستمر على ذلك دون توقف إلى أن هدم المسجد سنة 1994 ،ثم استأنفوا ذلك سنة 1996 بعد إعادة بنائه، وفان يدرسهم ألفية ابن مالك ومقدمة ابن آجروم وابن عاشر فكان عملا مهما أفاد به من حوله، وهو فرح بما قدم من جهد ظهرت ثمراته بمرور الوقت.
أما بخصوص تأطير الأئمة في إطار خطة ميثاق العلماء، فقد تولى هذه المهمة منذ سنة 2015 إلى أن توقف بسبب وباء كرونا في شهر مارس 2020
تزوج صاحبنا عام 1978 في شهر شوال ، وكان والده هو من اختار له شريكة حياته، وفي سنة 1989 يشاء الله تعالى أن يرحل ولده إلى دار البقاء بعد عودتهما من رحلة الحج ، ودفن في مدينة الناظور.
للفقيه سيدي محمد الهدر سبعة أولاد : خمسة أبناء وبنتان أصلحهم الله جميعا .
أول رحلة له إلى الديار المقدسة لأداء مناسك الحج كانت عام 1982، والرحلة الثانية بين عامي 84/85 كانت للعمرة. أما الحجة الثانية مع الوالد فكانت عام 1988، والثالثة عام 1993 ، والرابعة عام 1999، والخامسة عام2006 مع زوجته. وفي سنوات 2010/2011/2012 فكان يخرج في رحلات متتالية في إطار تأطير حجاج بيت الله الحرام مع إحدى شركات تنظيم رحلات الحج والعمرة.
حظي بشرف الصلاة بأمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس حفظه الله أثناء زيارته لمدينة الناظور، وذلك عام 2006 بمسجد الأميرة، فكانت هذه الإمامة من الأمور الجميلة التي يتذكرها ، خصوصا وأن ذلك تشريف له .
وانطلاقا من تجربته الطويلة في الشرط، واحتكاكه الدائم بالناس، وما راكمه من خبرة فإنه يوصي المقبلين على الشرط بأن يضعوا نصب أعينهم أن المسجد تقصده جميع فئات المجتمع، من متعلمين وأميين، ومتخلقين وغيرهم، لذلك وجب على الإمام أن يتحلى بالصبر، والحلم والحكمة في تدبير الأمور، والتفكير في العواقب والمآلات، متأسيا في ذلك كله برسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة، والذي كان صابرا محتسبا لوجه الله تعالى فالأئمة والعلماء هم ورثته صلى الله عليه وسلم في أخلاقه ودعوته عليه الصلاة والسلام.
وفي الأخير يختم امامنا الجليل اللقاء بالدعاء الصالح لكل معارفه بهذه المدينة من العلماء وعامة الناس بالرحمة والمغفرة والخير والبركة .
إلى هنا تتوقف رحلتنا الماتعة على قطار الحياة مع شيخنا الجليل السي محمد الهدار، سائلين الله تعالى أن يطيل في عمره في طاعته، ويبارك في علمه وعمله، وإلى لقاء آخر مع علم جديد من أعلام هذه المدينة العامرة بفضل الله تعالى.